كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال ابن عبد البر: أكثر الآثار المرفوعة عن عمار ضربة واحدة، وما روي عنه من ضربتين فكلها مضطربة، اه، منه. فبهذا كله تعلم أنه لم يصح في الباب إلا حديث عمار، وأبي جهيم المتقدمين، كما ذكرنا.
فإذا عرفت نصوص السنة في المسالة فاعلم أن الواجب في المسح الكفان فقط، ولا يبعد ما قاله مالك رحمه الله من وجوب الكفين، وسنية الذراعين إلى المرفقين، لأن الوجوب دل عليه الحديث المتفق عليه في الكفين.
وهذه الروايات الواردة بذكر اليدين إلى المرفقين تدل على السنية، وإن كانت لا يخلو شيء منها من مقال، فإن بعضها يشد بعضًا، لما تقرر في علوم الحديث من أن الطرق الضعيفة المعتبر بها يقوي بعضها بعضًا حتى يصلح مجموعها للاحتجاج: لا تخاصم بواحد أهل بيت، فضعيفان يغلبان قويًا، وتعتضد أيضًا بالموقوفات المذكورة.
والأصل إعمال الدليلين، كما تقرر في الأصول.
المسألة الرابعة: هل يجب الترتيب في التيمم أو لا؟ ذهب جماعة من العلماء منهم الشافعي وأصحابه إلى أن تقديم الوجه على اليدين ركن من اركان التيمم، وحكى النووي عليه اتفاق الشافعية، وذهبت جماعة منهم مالك، وجل أصحابه إلى أن تقديم الوجه على اليدين سنة.
ودليل تقديم الوجه على اليدين أنه تعالى قدمه في آية النساء، وآية المائدة، حيث قال فيهما: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6].
وقد قال صلى الله عليه وسلم «أبدأ بما بدأ الله به» يعني قوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} [البقرة: 158] الآية، وفي بعض رواياته «ابدؤوا» بصيغة الأمر. وذهب الإمام أحمد، ومن وافقه إلى تقديم اليدين، مستدلًا بما ورد في صحيح البخاري في باب «التيمم ضربة» من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال له: «إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا، فضرب بكفَّيه ضربة على الأرض، ثم نفضها، ثم مسح بها ظهر كفه بشماله، أو ظهر شماله بكفِّه، ثمَّ مسح بها وجهه»، الحديث.
ومعلوم أن «ثم» تقتضي الترتيب، وأن الواو لا تقتضيه عند الجمهور، وإنما تقتضي مطلق التشريك، ولا ينافي ذلك أن يقوم دليل منفصل على أن المعطوف بالواو مؤخر عما قبله، كما دل عليه الحديث المتقدم في قوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} الآية، وكما في قول حسان:
هجوت محمدًا وأجبت عنه

وعلى رواية «الواو» فحديث البخاري هذا نص في تقديم اليدين على الوجه، وللاسماعيلي من طريق هارون الحمال، عن أبي معاوية ما لفظه: «إنما يكفيك أن تضرب بيديك على الأرضِ ثمَّ تنفضهما، ثم تمسح بيمينك على شمالك، وشمالك على يمينك، ثم تمسح على وجهك» قاله ابن حجر في الفتح، وأكثر العلماء على تقديم الوجه مع الاختلاف في وجوب ذلك، وسنيته.
المسألة الخامسة: هل يرفع التيمم الحدث أو لا؟ وهذه المسألة من صعاب المسائل لإجماع المسلمين على صحة الصلاة بالتيمم عند فقد الماء، أو العجز عن استعماله، وإجماعهم على أن الحدث مبطل للصلاة، فإن قلنا: لم يرتفع حدثه، فكيف صحت صلاته، وهو محدث؟ وإن قلنا: صحت صلاته، فكيف نقول: لم يرتفع حدثه؟
اعلم أولًا أن العلماء اختلفوا في هذه المسالة إلى ثلاثة مذاهب:
الأول: أن التيمم لا يرفع الحدث.
الثاني: أنه يرفعه رفعًا كليًا.
الثالث: أنه يرفعه رفعًا مؤقتًا.
حجة القول الأول أن التيمم لا يرفع الحدث ما ثبت في صحيح البخاري من حديث عمران المتقدم أن النَّبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس فرأى رجلًا معتزلًا لم يصل مع القوم، فقال: «ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم»؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء. قال: «عليك بالصَّعيد فإنه يكفيك» إلى أن قال: وكان آخر ذلك أن أعطي الذي اصابته الجنابة إناء من ماء. قال: «اذهب فأفرغه عليك»، الحديث. ولمسلم في هذا الحديث «وغسلنا صاحبنا» يعني الجنب المذكور. وهذا نص صحيح في أن تيممه الأول لم يرفع جنابته.
ومن الأدلة على أنه لا يرفع الحدث ما رواه أبو داود، وأحمد، والدارقطني، وابن حبان، والحاكم موصولًا، ورواه البخاري تعليقًا عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه تيمم عن الجنابة من شدة البرد. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صليت بأصحابك وأنت جنب، فقال عمرو: إني سمعتُ الله يقول: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] الآية. فضحك النَّبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه» قال ابن حجر في «التلخيص» في الكلام على حديث عمرو هذا: واختلف فيه على عبد الرحمن بن جبير. فقيل عنه عن أبي قيس عن عمرو، وقيل عنه عن عمرو بلا واسطة، لكن الرواية التي فيها أبو قيس، ليس فيها ذكر التيمم، بل فيها أنه غسل مغابنه فقط.
وقال أبو داود: روى هذه القصة الأوزاعي عن حسان بن عطية، وفيه: «فتيمم». ورجح الحاكم إحدى الروايتين على الأخرى.
وقال البيهقي: يحتمل أن يكون فعل ما في الروايتين جميعًا، فيكون قد غسل ما أمكن، وتيمم عن الباقي. وله شاهد من حديث ابن عباس، وحديث أبي أمامة، عند الطبراني، انتهى من التلخيص لابن حجر.
قال مقيده عفا الله عنه: ما أشار إليه البيهقي من الجمع بين الروايتين متعين، لأن الجمع واجب إذا أمكن، كما تقرر في الأصول، وعلوم الحديث.
ومحل الشاهد من هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: «صلَّيت بأصحابك وأنت جنب»، فإنه أثبت بقاء جنابته مع التيمم.
ومن الأدلة على أن التيمم لا يرفع الحدث حديث أبي ذر عند أحمد، وأصحاب السنن الأربع، وصححه الترمذي، وأبو حاتم من حديث أبي ذر، وابن القطان من حديث أبي هريرة عند البزار، والطبراني، قاله ابن حجر في التلخيص.
وذكر في «الفتح» أنه صححه ابن حبان، والدارقطني من حديث أبي ذر أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أن الصعيد الطيِّب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته» الحديث.
قال ابن حجر في التلخيص بعد أن ذكر هذا الحديث عن اصحاب السنن من رواية خالد الحذاء عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر: واختلف فيه على أبي قلابة، فقيل هكذا. وقيل عنه عن رجل من بني عامر، وهذه رواية أيوب عنه، وليس فيها مخالفة لرواية خالد، وقيل عن أيوب عنه عن أبي المهلب عن أبي ذر، وقيل عنه بإسقاط الواسطة، وقيل في الواسطة محجن، أو ابن محجن، أو رجاء بن عامر، أو رجل من بني عامر، وكلها عند الدارقطني، والاختلاف فيه كله على أيوب، ورواه ابن حبان، والحاكم من طريق خالد الحذاء كرواية أبي داود، وصححه أيضًا أبو حاتم، ومدار طريق خالد على عمرو بن بجدان، وقد وثقه العجلي، وغفل ابن القطان فقال: إنه مجهول. هكذا قاله ابن حجر في التلخيص.
وقال في «التقريب» في ابن بجدان المذكور: لا يعرف حاله، تفرد عنه أبو قلابة وفي الباب عن أبي هريرة رواه البزار قال: حدثنا مقدم بن محمد، ثنا عمي القاسم بن يحيى، ثنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رفعه «الصعيد وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتق الله، وليمسه بشرته، فإن ذلك خير».
وقال لا نعلمه عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه، ورواه الطبراني في الأوسط من هذا الوجه مطولًا، أخرجه في ترجمة أحمد بن محمد بن صدقة، وساق فيه قصة أبي ذر وقال: لم يروه إلا هشام، عن ابن سيرين، ولا عن هشام إلا القاسم، تفرد به مقدم، وصححه ابن القطان، لكن قال الدارقطني في العلل: إن إرساله أصح، انتهى من التلخيص بلفظه، وقد رايت تصحيح هذا الحديث للترمذي، وأبي حاتم، وابن القطان، وابن حبان.
ومحل الشاهل منه قوله: «فإن وجد الماء فليمسه بشرته»، لأن الجنابة لو كان التيمم رفعها، لما احتيج إلى إمساس الماء البشرة.
واحتج القائلون بأن التيمم يرفع الحدث: بأن النَّبي صلى الله عليه وسلم، صرح بأنه طهور في قوله في الحديث المتفق عليه «وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا»، وبأن في الحديث المار آنفًا «التيمم وضوء المسلم»، وبأن الله تعالى قال: {فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] الآية، وبالإجماع على أن الصلاة تصح به كما تصح بالماء، ولا يخفى ما بين القولين المتقدمين من التناقض، قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر من الدلة تعين القول الثالث، لأن الأدلة تنتظم به ولا يكون بينهما تناقض والجمع واجب متى أمكن. قال في «مراقي السعود»:
والجمع واجب مى ما أمكنا ** إلا فللأخير نسخ بينا

والقول الثالث المذكور هو: أن التيمم يرفع الحدث رفعًا مؤقتًا لا كليًا، وهذا لا مانع منه عقلًا ولا شرعًا، وقد دلت عليه الأدلة، لأن صحة الصلاة به المجمع عليها بلزمها أن المصلي غير محدث، ولا جنب لزومًا شرعيًا لا شك فيه.
ووجوب الاغتسال أو الوضوء بعد ذلك عند إمكانه المجمع عليه أيضًا يلزمه لزوماَ شرعيًا لا شك فيه، وأن الحدث مطلقًا لم يرتفع بالكلية، فيتعين الارتفاع المؤقت. هذا هو الظاهر، ولكنه يشكل عليه ما تقدم في حديث عمرو بن العاص، أنه صلى الله عليه وسلم قال له «صليت بأصحابك وأنت جنب»، وقد تقرر عند علماء العربية أن وقت عامل الحال هو بعينه وقت الحال، فالحال وعاملها إذًا مقترنان في الزمان، فقولك: جاء زيد ضاحكًا مثلا، لا شك في أن وقت المجيء فيه هو بعينه وقت الضحك، وعليه فوقت صلاته، هو بعينه وقت كونه جنبًا، لأن الحال هي كونه جنبًا وعاملها قوله صليت، فيلزم أن وقت الصلاة والجنابة متحد، ولا يقدح فيما ذكرنا أن الحال المقدرة لا تقارن عاملها في الزمان، كقوله تعالى: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ} [الزمر: 73] لأن الخلود متأخر عن زمن الدخول أي مقدرين الخلود فيها، لأن الحال في الحديث المذكور ليست من هذا النوع.
فالمقارنة بينها وبين عاملها في الزمن لا شك فيها، وإذا كانت الجنابة حاصلة له في نفس وقت الصلاة، كما هو مقتضى هذا الحديث، فالرفع المؤقت المذكور لا يستقيم، ويمكن الجواب عن هذا من وجهين:
الأول: أنه صلى الله عليه وسلم قال له: «وأنت جنب» قبل أن يعلم عذره بخوفه الموت إن اغتسل.
والميمم من غير عذر مبيح جنب قطعًا، وبعد أن علم عذره المبيح للتيمم الذي هو خوف الموت أقره وضحك، ولم يأمره بالإعادة، فدل على أنه صلى باصحابه وهو غير جنب، وهذا ظاهر الوجه.
الثاني: أنه أطلق عليه اسم الجنابة نظرًا غلى أنها لم ترتفع بالكلية، ولو كان في وقت صلاته غير جنب. كإطلاق اسم الخمر على العصير في وقت هو فيه ليس بخمر في قوله: {إني أراني أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] نظرًا إلى مآله في ثاني حال، والعلم عند الله تعالى.
ومن المسائل التي تبنى على الاختلاف في التيمم، هل يرفع الحدث أو لا؟ جواز وطء الحائض إذا طهرت، وصلت بالتيمم للعذر الذي يبيحه، فعلى أنه يرفع الحدث يجوز وطؤها قبل الاغتسال، والعكس بالعكس.
وكذلك إذا تيمم ولبس الخفين. فعلى أن التيمم يرفع الحدث يجوز المسح عليهما في الوضوء بعد ذلك، والعكس بالعكس.
وكذلك ما ذهب إليه أبو سلمة بن عبد الرحمن من أن الجنب إذا تيمم ثم وجد الماء لا يلزمه الغسل، فالظاهر أنه بناه على رفع الحدث بالتيمم، لكن هذا القول ترده الأحاديث المتقدمة، وإجماع المسلمين قبله، وبعده على خلافه.